سورة النازعات - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النازعات)


        


{وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً}.
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه اللّه، عن هذه الأقسام التي أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها من مخلوقاته- يقول:
جاء في القرآن الكريم ضروب من القسم، بالأزمنة والأمكنة والأشياء.
والقسم إنما يكون بشىء يخشى المقسم إذا حنث في حلفه به أن يقع تحت للؤاخذة- نعوذ باللّه أن يتوهم شيء من هذا في جانب اللّه- وما كان اللّه جل شأنه ليحتاج في تأكيد أخباره إلى القسم بما هو من صنع قدرته، فليس لشىء في الوجود قدر إذا نسب إلى قدره تعالى، الذي لا يقدره القادرون، بل لا وجود لكائن إذا قيس إلى وجوده- سبحانه- إلا لأنه انبسط عليه شعاع من أشعة ظهوره جل شأنه ولهذا، قد يسأل السائل عن هذا النوع من الخبر الذي اختص به القرآن وكيف يوجد في كلام اللّه؟ فيجاب، بأنك إذا رجعت إلى جميع ما أقسم اللّه به، وجدته إما شيئا أنكره بعض الناس، أو احتقره لغفلته عن فائدته، أو ذهل عن موضع العبرة فيه، وعمى عن حكمة اللّه في خلقه، أو انعكس عليه الرأى في أمره، فاعتقد فيه غير الحق الذي قرر اللّه شأنه عليه- فيقسم اللّه به، إما لتقرير وجوده في عقل من ينكره، أو تعظيم شأنه في نفس من يحقره، أو تنبيه الشعور إلى ما فيه عند من لا يذكره، أو لقلب الاعتقاد في قلب من أضله الوهم، أو خانه الفهم ومن ذلك النجوم.. قوم يحقرونها لأنها من جملة عالم المادة، أو يغفلون عن حكمة اللّه فيها، وما ناط بها من المصالح، وآخرون يعتقدونها آلهة تتصرف في الأكوان السفلية تصرّف الرب في المربوب، فيقسم اللّه بأوصاف تدل على أنها من المخلوقات، التي تصرّفها القدرة الإلهية، وليس فيها شيء من صفات الألوهية.
ثم يقول الإمام:
و هناك أمر يجب التنبيه عليه، وهو أن من الأديان السابقة على دين الإسلام، ما ظن أهله أن هذا الكون الجسماني، وما فيه من نور وظلمة، وأجرام، وأعراض- إنما هو كون مادى، لم يشأ اللّه كونه إلا ليكون حبسا للأنفس، وفتنة للأرواح، فمن طلب رضا اللّه، فليعرض عنه، وليبعد عن طيباته، وليأخذ بدنه بضرب من الإعنات والتعذيب وأصناف الحرمان، وليغمض عينيه عن النظر إلى شيء مما يشتمل عليه هذا الكون الفاسد في زعمه- اللهم إلا على نية مقته، والهروب منه.
فأقسم اللّه بكثير من هذه الكائنات، ليبين مقدار عنايته بها، وأنه لا يغضبه من عباده أن يتمتعوا بما متعهم به منها، متى أدركوا حكمة اللّه في هذا المتاع، ووقفوا عند حدوده في الانتفاع.
وقد رأينا أن ننقل رأى الإمام في هذه الأقسام التي أقسم اللّه سبحانه بها في القرآن، لأننا لم نجد قولا خيرا من هذا القول، ولا أوضح منه في هذا المقام.
قوله تعالى: {وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً} اختلف المفسرون- كشأنهم دائما فيما يحتمل التأويل والتخريج- فلم يجتمعوا على رأى في مدلول كلمة {النازعات}.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أنها هى النجوم البعيدة، الغائرة، الغارقة في أطباق السماء العليا.
فالنزع: بمعنى الانطلاق، والنزوح البعيد.
والغرق: بمعنى الإغراق في الأمر، ومجاوزة الحدود.
{وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً} هى النجوم، القريبة- نسبيّا،- منّا، فنرى لها حركات ظاهرة، على خلاف النجوم، الغارقة في أجواء السموات العلا، حيث تبدو وكأنها مقيدة في أماكنها، أما النجوم القريبة، فتظهر عليها الحركة، وتبدو كأنها نشطت من عقالها.
{وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً} هى الكواكب، المطلة علينا في سماء الدنيا، كالشمس، والقمر، والمشترى والمريخ، وزحل، وغيرها.
فهذه الكواكب لقربها منا، نراها سابحة في الجو، كما تسبح الطيور.
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [38: يس].
{فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً}.
هى هذه الكواكب السابحة سبحا، وهى- كما يبدو من ظاهر حركاتها- في سباق مع بعضها، حيث ترى الشمس مرة أمام القمر، ويرى القمر مرة أمامها.
{فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً}.
هى أيضا نفس هذه الكواكب، السابحات سبحا، والسابقات سبقا.
إنها في تعاملنا معها، تضبط الزمن، ساعات، وأياما، وشهورا.. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} [12: الإسراء].
وتدبير هذه الكواكب لأمورنا، هو فيما يظهر من آثارها في حياتنا، من حرّ وبرد، ومن هبوب رياح، ونزول أمطار، وإنضاج ثمار، ومدّ وجزر في البحار، وغير ذلك مما نشهده من حركة الشمس والقمر، وما يتبع هذه الحركة من آثار في عالمنا الأرضى، برّا، وبحرا، وجوّا.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}.
ليس هذا جواب القسم، فجواب القسم- كما قلنا- هو مادل عليه ختام سورة النبأ، أما هذا فهو بيان لما يجرى في يوم القيامة، الذي جاء القسم لتوكيده، الأمر الذي يقتضى التسليم به، فلم يبق إلا بيان ما يحدث فيه.
والراجفة: الأرض، والرادفة السماء.
فالأرض ترجف يوم القيامة، ثم تتبعها السماء، فيما يقع فيها من أحداث هذا اليوم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} [48: إبراهيم].
وقيل: الراجفة: النفخة الأولى، وهى صعقة الموت: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} [68: الزمر].
والرادفة: النفخة الثانية، وهى نفخة البعث: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} [68: الزمر].. وجملة {تتبعها الرادفة} حال من {الراجفة}.
وقوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ}.
الواجفة: الخائفة، المذعورة: المضطربة.. والوجيف: ضرب من السير السريع المضطرب.
وهو إخبار عن حال المشركين الذين يكذبون بيوم الدين، وذلك حين تطلع عليهم أمارات الساعة، وإرهاصاتها.
وفى الإخبار عن القلوب، دون أصحابها، إشارة إلى أن القلوب في هذا اليوم، هى التي تتلقى هذه الأحداث، وتتفاعل بها، وأن الإنسان في هذا اليوم قد استحال إلى قلب واجف مضطرب، كل جارحة فيه، وكل عضو من أعضائه، قد صار قلبا، يدرك، ويشعر، وينفعل.. وذلك من شدة وقع الأحداث، التي يتنبه لها كيان الإنسان كله.. وفى تنكير القلوب، إشارة إلى أنها قلوب غير تلك القلوب التي عهدها الناس، إنها هذا الإنسان المجتمع فيها بكل أعضائه وجوارحه.
قوله تعالى: {أَبْصارُها خاشِعَةٌ}.
أي أبصار هذه القلوب أو أبصار أصحابها، إذ لا فرق بين الإنسان وقلبه يومئذ.. والخاشعة الذليلة.. وإنما أوقع الذلّ على الأبصار، لأنها هى المرآة التي تتجلى على صفحتها أحوال الإنسان، وما يقع في القلب من مسرات ومساءات.
قوله تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ. أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً}؟.
الحافرة: الحياة الأولى التي كان عليها الإنسان.. يقال رجع إلى حافرته، أي إلى الطريق الذي جاء منه.
والفعل {يقولون} هو الناصب للظرف: {يوم ترجف الراجفة} أي يوم ترجف الراجفة، متبوعة بالرادفة، متبوعة بقلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة- في هذا اليوم يقول المشركون: {أإنا لمردودون في الحافرة} أي أنردّ إلى الحياة الدنيا مرة أخرى بعد أن نموت، ونتحول إلى عظام بالية؟ إن هذه الأحداث لتشير إلى أن هناك بعثا وحياة بعد الموت!! لقد قال الذين يحدثوننا عن يوم القيامة إن هناك إرهاصات تسبقه، وهذه هى الإرهاصات.. فهل يقع البعث حقا؟ إن ذلك مما تشهد له هذه الأحداث!.
وهكذا تتردد في صدورهم الخواطر المزعجة، والوساوس المفزعة.
قوله تعالى: {قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ}.
أي عندئذ، وبعد أن يعاين المشركون أمارات الساعة، وهم في هذه الدنيا، وبعد أن يتبين لهم أن أمر البعث جدّ لا هزل، وأنه لا شكّ واقع- عندئذ {قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ} أي رجعة قد خسرنا فيها أنفسنا، إذ لم نكن نتوقعها، ولم نعمل لها حسابا.
قوله تعالى: {فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}.
{هى} ضمير الشأن، أي فإنما الحال والشأن زجرة واحدة، أي صيحة واحدة، أو نفخة واحدة.. {فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أي فإذا هم على ظهر الأرض.
والساهرة: الأرض، وسميت ساهرة، لأنه لا نوم للناس يومئذ فيها، بل هم في سهر دائم، بعد مبعثهم من نومهم في القبور.


{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)}.
التفسير:
بعد أن واجهت الآيات السابقة المشركين، بما يقع في نفوسهم من كمد وحسرة، حين تفجؤهم الساعة بأحداثها، وحين بقلت من أيديهم الطريق إلى النجاة- جاءت هذه الآيات لتعرض عليهم وجها من وجوه الضلال، فيه مشابه كثيرة منهم، وهو وجه فرعون وقد أشرنا في غير موضع إلى أن القرآن الكريم كثيرا ما يجمع بين هؤلاء المشركين وبين فرعون، إذ كانوا أشبه الناس به، عنادا، واستعلاء، وكبرا.
وقوله تعالى: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى}.
الخطاب من اللّه سبحانه وتعالى للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- وفيه استدعاء له من هذا الجو الخانق الذي ينفث فيه المشركون سمومهم والذي ترمى فيه أنفاسهم بدخان كثيف من تلك النار المشتعلة في قلوبهم، كمدا، وغيظا من النبىّ ودعوته.. وفى هذا الخطاب إدناء للنبىّ الكريم من ربه جلّ وعلا، وإيناس له.
والاستفهام، يراد به الخبر.. أي لم يأتك حديث موسى.. فاستمع إليه إذن! وقد جاء الخبر في صيغة الاستفهام، لما يؤذن به الاستفهام هنا من عظيم اللطف، وكريم الإحسان من اللّه سبحانه إلى النبىّ الكريم، حتى ليخاطبه مولاه خطاب الحبيب إلى الحبيب، في رفق، ومودّة، ليقول له: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى}؟ أي أعلمت حديث موسى؟ وأ تريد أن تعلمه؟ ألا، فاستمع!! وفى هذا ما يشير إلى أن ذلك أول ما تلقاه النبىّ من آيات اللّه، من نبأ موسى وفرعون.
وقوله تعالى: {إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} أي الحديث الذي نريد أن نبلغك إيّاه من أمر موسى، هو ما كان من نداء اللّه سبحانه وتعالى، إياه، وهو بالواد المقدس {طوى}.
و{الوادي المقدس}، هو واد في أسفل جبل سيناء، من الجانب الأيمن منه، في الطريق المتجه من الشام إلى مصر.. كما يقول سبحانه: {وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا} [52: مريم] و{طوى} اسم لهذا الوادي.
قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} هو بيان لما نودى به موسى من ربه، أي ناداه سبحانه ب قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ} وقوله تعالى: {إنه طغى} هو بيان لسبب الدعوة بالذهاب إليه.. إنه طغى، وتجاوز الحدود في بغيه وعدوانه، وفى كفره وضلاله.
قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى}.
وتلك هى الرسالة التي يحملها موسى من ربه إلى فرعون.
وقوله تعالى: {هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى} أي هل تودّ أن تتزكى، ويتطهر؟
وفى هذا الأسلوب الاستفهامى، ترفق وتلطف في الدعوة إلى اللّه، وفى مواجهة عناد المعاندين وكبر المتكبرين باللطف واللين.
إن الحكمة تقضى في مثل هذا المقام، أن يستميل الداعي إلى الحقّ من يدعوه إليه، وأن يترفق في الدخول إلى قلبه، حتى يجد منه أذنا صاغية، وقلبا واعيا، إذا كان فيه بقية من عقل، أو يقظة من ضمير.. ولو جاء الداعي إلى من يدعوه إلى العدول عن الطريق الذي هو عليه- لو جاءه آمرا، أو زاجرا، أو فاضحا لحاله المتلبس بها، لما وجد منه إلا إعراضا وازورارا، وتكرّها لسماع ما يلقى إليه من حديث، فكيف إذا كان هذا المدعوّ جبارا عنيدا كفرعون؟
ولهذا جاء قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى} راسما لموسى هذا المنهج الحكيم لدعوة هذا الجبار العنيد، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} [43- 44: طه].
وفى هذا الأسلوب القرآنى الخطة المثلى، والمثل الكامل القويم، لأصحاب الدعوات، من القادة، والزعماء، والمصلحين.. إنهم لن يبلغوا بدعوتهم مواطن الإقناع، ولن يحصلوا منها على ثمر طيب، إلا إذا جعلوا الرفق واللين سبيلها إلى الناس، والا إذا غذّوها بمشاعر الحبّ، والرغبة الصادقة في الإصلاح، وبخاصة إذا كان الداعي يدعو إلى حقّ، ويهدف إلى هدى وإصلاح: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [145: النحل].
وليس مما يدخل في هذا الباب، المداهنة، والمخادعة، والنفاق.. فذلك كله شر، إذا اختلط بالدعوة الصالحة أفسدها، وإذا خالط الحقّ أثار الدخان الكثيف في سمائه الصافية، فغشّى على الأبصار، وحجب الرؤية عن مواقع الهدى.
قوله تعالى: {فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى}.
هنا كلام كثير محذوف، دلّ عليه المقام، أي فجاء موسى إلى فرعون ودعاه في رفق ولطف إلى اللّه، فما كان من فرعون إلا أن ردّ موسى ردّا قبيحا، وأغلظ له القول، ورماه بالكذب والجنون، فلما أراد موسى أن يدفع هذه التّهم عنه، ويثبت لفرعون أنه رسول ربّ العالمين، تحدّاه فرعون بأن يأتى بما يدلّ على أنه رسول من عند اللّه- {فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى} وهى العصا وانقلابها حية تسعى.. وهى أكبر الآيات التي بين يدى موسى.
وقوله تعالى: {فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى}.
هذا بيان لموقف فرعون بعد أن أراه موسى الآية الكبرى.. لقد كذب بما رأى، واتهم موسى بأنه ساحر.. ثم جمع سحرته، ولقى بهم موسى، معلنا في الناس أنه الرب الأعلى، وأن الرب الذي يدعو إليه موسى، هو رب دونه منزلة وعلوّا.. فهكذا يبلغ الضلال والسّفه بالضالين السفهاء!! وفى قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى} إشارة إلى أنه بعد أن رأى الحية وأفاعيلها، وما أوقعته في قلبه وقلوب من معه- لبس ثوب الحية، فجعل يسعى في الناس مهددا متوعدا، باعثا الرعب والفزع في القلوب، حتى يخرج منها هذا الفزع الذي استولى عليها من حيّة موسى.
قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى} هذه هو ختام القصة.. لقد انتهت بهزيمة فرعون، وخزيه، وفضح ربوبيته على أعين الناس.. ثم لم يقف الأمر عند هذا، بل أخذه اللّه بالعذاب في الآخرة، بأن أعد له أسوأ مكان في جهنم، كما أخذه بالعذاب في الدنيا بأن أماته شرّ ميتة، بأن أهلكه غرقا، ثم ألقى جثته المتعفنة على الشاطئ، وقد عافت حيوانات البر أن تطعم منها، بل ظلت هكذا عبرة وعظة، في هذا الإله المتعفن، الذي يزكم الأنوف ريحه النتن، {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [92: يونس] وقدّم نكال الآخرة على نكال الأولى، لأن عذاب الآخرة أشد وأقسى، لا يكاد ما لقيه فرعون من عذاب في الدنيا يعدّ شيئا بالنسبة سيلقاه لما في الآخرة.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى} أي إن في هذا الحديث، وفى الأحداث التي يعرضها القرآن، لعبرة وعظة، لمن كان له عقل يرى به مصير أهل السوء والضلال، فيخشى على نفسه مثل هذا المصير، فيباعد بينها وبين السوء والضلال.


{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)}.
التفسير:
تجىء هذه الآيات، بعد هذا العرض الذي عرضت فيه الآيات السابقة- في إيجاز- قصة موسى وفرعون، وما لقى فرعون من خزى وبلاء في الدنيا، وما أعد له في الآخرة من عذاب أشد خزيا، وآلم وقعا من كل عذاب- تجىء هذه الآيات، لتلقى المشركين، بقوة اللّه سبحانه وتعالى، وليرى المشركون كيف تجليات هذه القدرة، وكيف آثارها، وأنهم ليسوا أربابا، كما ظن فرعون في نفسه أنه ربّ، وربّ أعلى.
قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها}؟
أي ما قوتكم أنتم أيها المشركون مع قوة اللّه؟ وأين قوتكم من قوة بعض مخلوقات اللّه؟
أأنتم أشد خلقا وقوة أم السماء؟
فمن بنى هذه السماء؟ ومن أقامها سقفا مرفوعا فوقكم؟
اللّه بناها، واللّه رفع سمكها، أي قامتها، واللّه سواها، على هذا النظام البديع، وما تتزيّن به من كواكب ونجوم.
وقوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها} واللّه- سبحانه- هو الذي أغطش، أي أظلم ليلها، أي ليل هذه السماء، وفى إضافة الليل إلى السماء، إشارة إلى أن الليل إنما يرى كونا معتما، مطبقا على الأرض.. فهو ليل السماء، التي أطفئ سراجها، وهو الشمس.
واللّه- سبحانه- هو الذي أخرج ضحى هذه السماء، وأضاء سراجها، وأوقده، بعد أن أخرجه من عالم الظلام.
والإشارة إلى الضحى، من بين أوقات النهار، إلفات إلى الوقت الذي يمتد فيه نور الشمس، فيغمر الآفاق كلها.. وهو ما يسّمى رائعة النهار.
قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ}.
أي واللّه سبحانه، هو الذي دحا الأرض، وبسطها، بعد أن رفع السماء وسواها.
وهو سبحانه الذي أخرج من هذه الأرض الماء الذي فيه حياة كل حى.
وبهذا الماء أخرج اللّه المرعى، أي ما يأكله الناس والأنعام.
والماء الذي يخرج من الأرض، هو من هذا الماء الملح، الذي سخرته القدرة الإلهية، ليكون بخارا، فسحابا، فمطرا، فماء عذبا تفيض به الأنهار، وتتفجر منه العيون.. وكما أخرج اللّه سبحانه الماء والمرعى من الأرض، أرسى فيها الجبال لتمسكها وتحفظ توازنها.
وقوله تعالى: {مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ} هو مفعول له، أي دحا اللّه الأرض وأخرج منها الماء والمرعى، متاعا لكم ولأنعامكم وزادا تتزودون به لحياتكم وحياة أنعامكم.
وفى جعل المرعى متاعا للناس والأنعام- إشارة إلى أن الناس والأنعام سواء في هذا الرزق الذي أخرجه اللّه سبحانه وتعالى من الأرض، وأن العقل الذي امتاز به الناس على سائر الحيوان، ليس هو الذي يفيض عليهم هذا الرزق، وإنما هو فضل من فضل اللّه، ورزق من رزقه! إنهم يرزقون من فضل اللّه كما ترزق الأنعام.. سواء بسواء.
قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى} أي فإذا وقعت الواقعة، وجاء اليوم الموعود، الذي هو طامة كبرى، وبلاء عظيم على أهل الضلال والفساد، والذي يتذكر فيه كل إنسان ما عمل من خير وشر، وبرزت الجحيم، أي ظهرت بارزة واضحة لمن كانت له عينان يبصر بهما- إذا كان كل ذلك، حوسب الناس على ما عملوا، ولقى كل عامل جزاء عمله.
فجواب الشرط محذوف، دل عليه ما بعده من قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا..}.
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى} أي أنه إذا حوسب الناس، اختلفت منازلهم، حسب أعمالهم.. فأما من طغى واستكبر، وسلك مسلك فرعون، وآثر الحياة الدنيا، ولم يعمل للآخرة عملا- فإن جهنم هى مأواه، ومنزله الذي يأوى إليه.
قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى}.
أي وأما من خشى ربه، وخاف حسابه وعذابه، وصرف نفسه عن هواها، ابتغاء مرضاة اللّه- فإن الجنة مأواه، ومنزله الذي بهنأ فيه بنعيم اللّه ورضوانه.
وفى قوله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} إشارة إلى أن لأهواء النفس سلطانا قاهرا، وأنه إذا لم يقم الإنسان على نفسه ناهيا ينهاها، وزاجرا يزجرها عن اتباع هواها كلما دعتها دواعيه- انقاد لهذا الهوى الذي يغلبه على أمره، ويطرحه في مطارح الضلال، والهلاك.

1 | 2